أزمة الفن المعاصر

أحمد جاريد

 

هل لم تعد الحاجة ألى الجمال ضرورية.

 

يختار الفن المعاصر لنفسه موقعا جديدا هو الفن المضاد للفن(Anti-Art) ، وذلك بمناهضة القيم الاستيتيقية المعمول بها.  أي اجتياح اللافن للفن. هذه الخَلخَلة التي بشَّرَت بها ما بعد الحداثة الفنية منذ (Fontain)  مارسيل دوشان ما لبثت تثير عاصفة غبار من الفوضى واضطراب المفاهيم. فالتأليفات الإصطلاحية المِعْيارية أتلفت اليوم وغذتْ إعادة تعريف العمل الفني مسألة تطرح نفسها. وأي تحديد آني أكثر جدية يمكن طرحه اليوم أفضل من تجديد الجواب على سؤال : ما الفن ؟

وإذا كان الفن المعاصر قد اختار لنفسه ما أسماه بوظيفة اختراق القِيَم واختراق الحدود بين الأجناس الفنية. ولم يعد الفن ينتسب للفن. فهل معنى هذا أن الفن فَقَدَ ضرورة وُجودِه ؟

ومقابل ماذا يتخلَّى الفن المعاصر من خلال تعبيراته الراهنة المختلفة عن المتعة الجمالية ؟

- هل معنى هذا أنه لم تعد الحاجة إلى الجمال ضرورية ؟

هناك ما يُحْزِن في طرح هذا السؤال. أهُوَ مَوْت الصورة ؟   أم الأكذوبة التي تَخْدَعُنا بها قنوات ومنابر الإعلام ومن ورائها فقاعات ومضاربات المزادات الفنية وأروقة العواصم العالمية ؟ أم لأنه لم يَبْقَ هناك من جديد تضيفه اللوحة إلى تاريخها ؟ هل لأن الرسم شاخ وبلغَ سنَّ اليأس ؟

أم "هل سيكون علينا أن ندافع عن شرعية وُجودُ رسم ضعيف بحجة الدفاع عن فنون تكافحُ ضد الصّورة من خلال الإِعلاء من شأن الفكرة ؟ " على حد تعبير الناقد فاروق يوسف.

وإذا كان الفن عبر تاريخه يخْضَعُ لجاذبية قوية نحو التغيير وتكسير القيود والقوالب الجاهزة فهل الخطاب المفاهيمي الذي يَسْتَنِد إليه الفن المعاصر يَتِمُّ من داخل الفن أم من خارجه ؟ أهو قطيعة جديدة في تاريخ الفن أم مُجَردُ تضليل؟

من الواضح أن المزادات الفنية منذ بداية الألفية الثالثة ما لبثتْ تُغالطنا بفقاعات المضاربات والتي لا علاقة لها بالحالة الصحية للفن ولا بجودته حيث خَلّفَتْ سِباقاً محموماً  نحو سوق الفن ، فما هي الشجرة التي تُخْفي الغابة في هذا المشهد المؤسف الذي ربح فيه الجميع وخرج الفن خاسرًا ؟

رغم كل هذا يبقى هناك سؤال محير لا بد من مواجهته وهو من أين يستمد الفن المعاصر سلطته كي يحقق كل هذه السطوة ؟

 

الأجوبة على هذه التساؤلات هي ما أرغب في أن نفكر فيها جميعا. وسأقترح عليكم بعض عناصر هذه الأجوبة وتتمثل في 7 عناصر أساسية ستساعدنا في تفكيك أزمة الفن المعاصر. لكن قبل ذلك اسمحوا لي أن أحكي لكم واقعتان أساسيتان :

 الأولى وقعت في منتصف الخمسينيات حيث كانت مجموعة فنانين يابانيين تدعى « Go-THAI »  أنجزت (بيرفورمانس) فقام فنان من ضمنهم وهو (Mora Kami) وهرع بقوة إلى لوحته الكبيرة الفارغة والتي هي ورق عل شاسي فاقتحمها وتمزق الورق ، عندها قال للحاضرين هذا هو عملي الفني .

الواقعة الثانية هي أن الفنان ( Yve Klein) نظم معرضا بباريس فلما حضر الجمهور ودخلوا القاعة وجدوها فارغة من أي عمل فني فخاطبهم قائلا :

 L’exposition de videمعرض الفراغ

 

لن أعلق على هذه الوقائع وأعود لعرض بعض عناصر الإجابة :

 

 •  اختراق القيم :

العنصر الأول يتمثل في أن الفن المعاصر الذي ظهر بعد مرحلة الحداثة يعلن ذهابه نحو اختراق القيم الجمالية واختراق القيم القانونية والأخلاقية والسياسية والدينية.

 

 • اختراق حدود الصورة :

فقد الفن المعاصر انتسابه للفن حينما قسّم تَرِكة الفن الحديث بين مجالات متناسلة عديدة مثل الفيديو والتنصيبات والكرافيتي والويب والبرفورمانس والصورة الفوتوغرافية والصوت والكوريغرافيا ... وأصبحنا أمام إخصاب هجين.

 

 • اعتماد مطلق على الخطاب :

المنجز في الفن المعاصر يعتمد كليا على المفاهيمية أي على الخطاب واللغة ، ومن دون خطاب فالمنجز فاقد لمعناه. فالمنجز لايمكن إعادة انتاجه لأنه يُرْوى ويُحْكى.

 

 • ليس المنجز وإنما أثره :

المنجز الفني لم يعد يكمن في الشيء وإنما في أثر الشيء ونتائجه على المتلقي أو المشاهد.

 

 • العبثية :

عنصر العبثية ، والعبثية هنا ليست كسؤال منشغل بهدم العالم من أجل إعادة بنائه بل هدمه والإبقاء عليه مدمرا. فالسطحية هي مظهر من أهم مظاهر الفن المعاصر.

 

 • الاعتماد الحاسم على وسائل الإعلام :

من الأدوات الأساسية التي يعتمدها والتي من دونها لا تقوم له قائمة هي ارتكازه بشكل حاسم على وسائل الإعلام.

 

 • العولمة :

من الخصائص الكبرى لانتشار هذا الفن هو انخراطه في العولمة بل والأمركة ، فالمرجعية الأمريكية ضمان كاف لمصداقية المنجز الفني وضمان لقيمته التسويقية.

 

 

متاهة الفن المعاصر أهي قطيعة أم أزمة ؟

من المعروف أن القطيعة المعرفية أو ما تسميه الفلسفة بالقطيعة الإيبستيمولوجية هي حكم من أحكام تاريخ المعرفة بشكل عام. والمعرفة الفنية لا تخرج عن هذا القانون ، وليس في مقدورنا نفي دعوة الفن المعاصر إلى التمرد . لأن رواد الفن الحديث بدورهم كالانطباعيين مثلا خرجوا إلى الطبيعة بحثا عن الضوء ، وهذا في حد ذاته تمرد على المرسم وعلى الكلاسيكية. غير أن قطيعتهم مع المرسم ومع الكلاسيكية أتَتْ من شغفهم الجمالي في البحث عن ضوء جديد وعن مقاربة كروماتيكية مغايرة. وهو تغيير الفن من داخل الفن ، والتمرد على الإبداع بالإبداع. وغدا الفن الحديث يستمد قوته من الحداثة ومن نفسه لا أن يستجدي باللغة  كما هو الحال في الفن المعاصر الذي يستورد معناه من خارجِه أي من الخطاب.

هكذا فنحن لسنا أمام قطيعة يتجاوز فيها الفن مرحلة مُتَجاوَزة بتأسيس مرحلة متطورة، بل نحن أمام أزمة ، لذلك لا غرابة أن تكون حلقة الفن المعاصر هي أضعف حلقة يشهدها تاريخ الفن ومن مظاهر هذه الأزمة أيضا هي إتلاف الوظيفة الجمالية للفن وتبخيس دهشة الإبداع ، بل غذت وظيفة تسويقية يَتَقَرّرُ مصيرها في الإعلام وفي بورصة الفن حيث أصبحت عنوان على معاصرة من يتعاطون لهذا الفن ومعاصرة من يقتَنونه وأضحت الغرائبية صرعة حتى لم يعد أحد يسأل عن موهبة الرسام.

 

لكن يبقى هناك سؤال عالق وهو :

من أين يستمد الفن المعاصر سلطته كي يحقق كل هذه السطوة ؟

سلطة الفن المعاصر ليست لا سلطة فنية ولا سلطة جمالية . لأنه يريد أن يؤسس نفسه بناء على التمرد ضد الاستطيقا وإقصاء المتعة الجمالية في العمل الفني. ومن جهة ثانية فكل سلطته ليست فنية وإنما تعطيل الفن لصالح سطوة اللغة ، فالرواية التي يرويها (Marcel Duchamp) حول "المبولة" أهم من المبولة. وهذا يقودني إلى القول بأن المبتغى الذي يطمح إليه أغلب الفنانين المعاصرين هو اعتماد عنصر الإثارة وإثارة الاستفزاز ، انطلاقا من التقزز إلى الفزع واستثمار الفجيعة المجانية . وكثيرا ما حققوا هذه الإثارة لكن بكثير من  التكلف والإسفاف. وبما أن الإعلام كان دائما يسعى إلى المواضيع المثيرة للرأى العام فلا غَرْوَ أن يجد في الفن المعاصر ضالته ومادته الدسمة. وهو ما قدم لهؤلاء الفنانين خدمة جليلة.

 

فهل السؤال الديني أو السياسي هو فعلا ما يحرك الفنانين المعاصرين ؟

سيكون من السذاجة اعتقاد ذلك ، أو تصديق التضليل الذي تسوقه أروقة العرض ولا حتى الأقلام الصحفية التي تنتعش في بركة الإثارة. وحتى إن كان لا مناص من التفكير ومن السياسة فينبغي أن يفكر الفن في السياسة لا أن تفكر السياسة في الفن ليتحول العمل الفني إلى نوع من البيان (Manifesto).

 

هناك ملاحظة أخيرة مخيبة للآمال أريد إثارتها وهي الدور الماكر لأروقة العرض والمزادات الفنية منذ بداية هذه الألفية سواء في لندن أو نيويورك أو دبي أو حتى الدار البيضاء وغيرها التي تغالطنا بكثير من فقاعات مضاربات السوق والتي لا علاقة لها بجودة الفن. كانت نصبت فخاخا عَلِقَ بها فنانون (أقصد العرب منهم) ولا يزالون رهائن حتى الآن لا هم باعوا أعمالهم فيما بعد بالأسعار التي رسَتْ عليها المزادات ولاهم استطاعوا تخفيض أسعارهم ، فبقوا خائبين عُرْضَةً لازدراء أروقة العرض وشماتة القدر. ولنتخيل حجم المهانة التي تُرِكَ هؤلاء الفنانون عُرْضَة لها.

 

نص مداخلة الفنان في الندوة الفكرية على هامش ملتقى "عمان عربيا "

 

 

فنان تشكيلي/ المغرب

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine