أصيلة... مسالك الفن وطريق الذهب

 

علي رشيد


الذهاب إلى أصيلة له طعم مختلف، حين يكون ذهابا لتقفي الأثر، ومسالك "طريق الذهب"، وهو الموضوع الذي اختير للملتقى الدولي للفن (symposium) في دورته الثالثة 2015 والذي يشرف عليه "مركز الفن المعاصر في بريش/ أصيلة" الذي تديره الفنانة المغربية أحلام المسفر.
دوّن الملتقى تعريفا في مطبوعاته لطريق الذهب، جاء فيه (انطلقت طريق الذهب سنة 757 مع المرابطين، ومن بعدهم الموحدين من مدينة سجلماسة كملتقى الطرق الأساسية في التجارة بين جنوب حوض المتوسط وأفريقيا والمشرق وارتبط اسمها بتجارة الذهب حيث تنطلق قوافل تجارية محملة بالحرير والتوابل والحناء والملح والكتب والمخطوطات والفخار الأندلسي مقابل ذهب غانا وريش النعام وحرير المشرق والرقيق والفضة، يسير في ركبها تجار وصوفيون وعلماء وخطاطون يخترقون طرق الصحراء الوسطى بوادي درعة المنطلقة من سجلماسة، وورقلة (Ouargla )، وغدامس (Ghadamès)، ثم واحات توات (Touat) للوصول إلى تاكدة (Takeda) تومبوكتو (Tombouctou) عبر "درب الأربعين يوما" "chemin des 40 jours " الموصلة إلى دارفور (Darfour) ثم السودان أو كاو(Gao) أو غانا. وتستغرق61  مرحلة إذ كانت الطريق تقاس بعدد الآبار).
إن اختيار الملتقى لـ"طريق الذهب" هو إشارة إلى عوالم، وثقافات اسهمت في تأسيس تحوّلات الحداثة في الفن، وإثراء عناصره، وهنا تأكيد لدور الثقافة، والفن الأفريقيين الذي صبت روافدهما في تجارب فن القرن العشرين وتحولاته، بل نحت هذا الفن أثره في نتاج كبار الفنانين العالمين المعاصرين ممن لم يتوانوا عن أن يخوضوا مغامرة الذهاب إلى القارة السمراء  في مطلع القرن الماضي للتعرف على الفن الفطري الأفريقي الذي نهلوا من موارده بعدما استخلصوا منه دروس البساطة، والانحياز الى الطبيعة وعناصرها، ومرموزاتها بصياغة سحرية تعيد بناء الأشكال، والملامح، وطوطميات تحرر الجسد من ثقل الواقع، لتنقله إلى مخيلة تتجاوز الصياغات والقواعد التقليدية. كذلك يمثل العنوان إشارة إلى أن الفن لم يعد حيزا جماليا بحتا، الغرض منه إضافة جرعة من المتعة المبتسرة، أو الثراء الشكلي على العالم الذي نعيشه، بل هو ذهاب له طرق، ومسالك بصرية، ذهاب إلى مجاهيل، واكتشافات يعود منها الفنان بمغامرة تعيد تشكيل حساباته الأولى، ومفاهيمه السابقة.
ومابين "طريق الذهب" و "طريق الفن" واكتشافاتهما دار المبحث الفكري، والندوة التي أقامها الملتقى حيث شارك فيها الناقد فاروق يوسف محاضرا، ومحاوروه من الفنانين والحضور من خلال تعليقاتهم، ومداخلاتهم. في تقديمه للمحضر الثقافي للندوة طرح الفنان المغربي، أحمد جاريد، المنسق الفني لهذه التظاهرة المكانة التي تحظى بها أفريقيا جغرافيا، وثقافيا في المغرب، بالأخص مع الجذور الأفريقية التي تشكل مكونا هاما في النسق الثقافي، والإجتماعي المغربي . فيما أشار الناقد فاروق يوسف في محاضرته إلى العولمة التي جعلت الفن يتحرر من حواجز الجغرافية، وخصوصية الثقافة ليتحول إلى المشاعة كمنجز إنساني يحق لكل فنان التواصل معه، والعمل على تطويره، والذهاب به إلى مديات أكثر سعة، ولهذا وجد الناقد أن استلهام بيكاسو للفن الأفريقي جعل هذا الفن ينطلق للعالم وبفعل إبداعي معاصر، حتى صار النقاد، والدارسون، وطلبة الفن ينظرون للفن الأفريقي كمصدر من مصادر الفن المعاصر، ولولا بيكاسو  لكان النظر إلى الفن الأفريقي اليوم لايتعدى بعده البيئي والفلكلوري .
وسط حوار تعددت مراميه حول الهوية الثقافية للفنان، والهوية العالمية للفن، تبقى الكثير من الأسئلة عالقة: هل على الفنان أن ينطلق من هويته إلى الفن، أم ينطلق من الفن إلى وجوده الإنساني وفاعليته؟
 هل سيتيح السوق الذي يتحكم بمقاليد الفن وطروحاته من أن يمنح الفنون ذات الخصوصية الجغرافية، والثقافية أن تنطق كلمتها وسط هذا المزاد المرتبط بمزاج من يتحكم بهذا السوق؟. هذا المزاج الذي يزداد شراسة في تغييب الآخر سعيا لذائقة يعممها هو في الملتقيات، والمتاحف، وبورصات الفن.
سلك الفنانون المشاركون في الملتقى طرقا مختلفة للوصول إلى هذه الفعالية التشكيلية، لكن طريقا واحد بقي مرسوما في مخيلتهم هو "طريق الذهب" ومرموزاته الفكرية، والإيحائية التي ستحفزهم لشق طرقهم الخاصة، وحيازاتهم البصرية، والتجريبية في التعامل مع القماشة لبناء عوالمهم التشكيلية، وإنجاز أعمال فنية، يلجون من خلالها إلى الزمن المعاش، من خلال التحرر من اللغة الساكنة، باستخدام لغة بصرية حوارية تكثف الفعل الإبداعي وتقترب من هاجس المتلقي بوعي حداثي متجدد.
 يستحضر الفنان زمنه لحظة الفعل الإبداعي. هذا الزمن المرتبط عادة بعزلة تستنبط المتخيل. عزلة تسوّر خصوصيتها من خلال المكان الذي يمارس فيه المبدع بحثه البصري على اللوحة لإدراك مكنوناتها بالتأمل والتأويل دون رقابة من الآخرين، أو جوار يشتت فعل الإنصات إلى قيامة المادة، ودلالتها. لكن زمن الفنان في أصيلة كان زمنا جمعيا، قياسه اللحظة التي تتشكل عبر تواجد هذا العدد من الفنانين المدعوين، ونتاجه (الحوار، وتبادل الرأي) الذي خطه المشاركون لتأصيل المتن (الأعمال المنفذة) الذي صيغ بفردانية الفنان في تنفيذ رؤاه، ومهارته، ووعيه البصري على مساحة القماشة، لكن الفردانية لم تنحاز لذات الفنان، بل تعمدت بالذوات الأخرى التي كثيرا ما أشارت، وتشاورت حول كل عمل إلى الحد الذي أصبحت كل قماشة مختبرا للنظر، والتجريب.
هذا الزمن الجمعي ومراميه كان تأصيلا لوعي القائمين على هذه الفعالية، وخصوصا الفنانان التشكيليان المغربيان أحلام المسفر، وأحمد جاريد، حيث كان اهتمامها بحضور الفنان، وانضمامه إلى هذا الحوار البصري، ومشاركته الآخرين بخزينه المعرفي هو الهدف الاساس لقيمة الملتقى، والإضافة لرؤاه. هذا كله جعل حضور أي فنان حلقة في تأصيل حضور الآخرين. كان الحضور في ملتقى "مركز الفن المعاصر" حضورا لا يحتمل التسميات. فلم يكن هنالك مشرف ، أو رقيب، بل استوطن الحضور زمن الفن بحمية العمل، والإنصات، والسعي إلى مشاعة اللحظة وحكمتها، إلى سعة البياض وقيامته.
لقد شكل ملتقى أصيلة فضاء، ورؤية جعلته متميزا من حيث الإعداد له، بدعوة العديد من الأسماء التي تشكل ملمحا في خارطة الفن وفضائه، بالإضافة إلى الأماسي الثقافية التي تتخلل برنامجه، حيث شاركت الشاعرة المغربية وداد بنموسى بأمسية شعرية قدمت خلالها قراءات لقصائدها التي تفاعل معها الحضور. حمل هذا الملتقى، ومنذ دورته الأولى بصمة مغايرة، وشكل تعبيرا مختلفا لمفهوم الملتقيات وعبرتها ونتاجها. خصوصا وأن العديد من الملتقيات العربية تذهب وللأسف جُفاء، كما لو أنها حفلات تنكرية تنتهي كفعل، وممارسة مع انتهاء تلك الملتقيات، ولا يبقى منها مايشير إلى الفن وحضوره.  
بالإضافة لتواجد عدد من الفنانين المغاربة الذين جاءوا من مغترباتهم لحضور حفل افتتاح المعرض الذي يقام  مع كل دورة لأعمال الدورة السابقة، خصوصا وأن دورته الماضية قد خصصت لموضوع  "الفن المغربي المغترب" فقد حضر للمشاركة لهذا العام فنانون وكتاب من دول عدة منهم: منى قاسم (السودان)، محمد الجالوس (الأردن)، سامي بن عامر، ورشيدة عماره، وهدى العجيلي (تونس)، محمد العتيق (قطر)، فاروق يوسف، وليد رشيد، وكاتب هذه السطور (العراق)، أحمد بودان (نيجيريا)، جعفر (الجزائر)، أحمد جاريد، وأحلام لمسفر، ورشيد بكر (المغرب).

 

 محرر إلـــــــــــــــى

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine