عبدالله مراد ينسج من «الكابوس» السوري جَمالاً

فاروق يوسف

 

هذه المرّة يمكننا أن نثق بإحساسنا عنــد اللقاء بعبدالله مراد الآخر، السوري الطالع من الحرب ليعرض لوحاته عند «كلود ليمان» في باريس. ما من شيء يذكر بمراد الذي أعرفه إلا سلامه الداخلي وقــوة شخصيته. أما الرسام فتغيّر كثيراً. يمكن للوحاته أن تكون سجلاً للألم في أشدّ صوره صفاء وتوحداً وسكينة، حين يكون جواباً عن سؤال حائر من نوع «ما الذي فعلته الحرب بنا؟». ولكن ما من أحد يجرؤ على توجيه ذلك السؤال إلى مراد الذي لم تعد البداهة تليق بوصف ردود أفعاله، وهو الكائن الذي يعبّر عن روح هي أشبه بمرآة لا تقبل الخدش.

 

كان عبدالله مراد (مواليد 1944) يحرص في ما مضى على ألا يتسلل الضجيج إلى عالمه الفني. في دمشق القديمة، حيث يقع مرسمه، كان ينصت إلى الصمت لينسج مكائده الصورية من خيوط حرير، ذلك الصمت الآخاذ، فكانت رقته تميزه عن سواه من الرسامين السوريين. هي رقة تدفع بالمرء إلى استعمال حواسه كلها من أجل أن يكون التماهي معها ممكناً. ذلك لأن النظر إلى لوحات مراد لا يتم إلا من خلال الاستعانة بالحواس كلها. هناك أشكال تُرى، لكنّ نورها يخفي الجزء الأكبر منها. وهو الجزء الذي يتوزع بين العطر والموسيقى وطعم الحياة الذي لا يتحقق بالتذوق وحده، بل يحتاج إلى أن يُلمس. لقد وهبه الرسم قدرة أن يكون شاعر الحواس التي لا تحضر مجتمعة إلا نادراً. وهو ما أكسبه شجاعة أن يغلب الجمال على المعنى.

 

اليوم يبدو الأمر مختلفاً. فمراد الذي علمنا كيف ننصت إلى الصمت لم يعد معنياً في أن يُجرّد وقع خطواته من صخبٍ يذكّر بما يفعله الآخرون، الأشرار الذين يشبهوننا. أكأن يلتقط جماليات الشر في وقت مبكر من حياته لكي لا يكون ذلك الآخر الذي لا يفهمه أحد؟ وهو آخر يعيش غربته مرتين. مرة وهو ينكر حياته السابقة التي عاشها بترف مرئياته الصامتة، ومرة أخرى حين يرى الآخرين وهم يتعاطفون مع حياته الحالية من جهة الأسف الذي لا يهدي أملاً.

 

يكفي المرء أن ينظر إلى لوحات مراد في معرضه الحالي لكي يعرف ما الذي حدث لسورية. أما من شيء شخصي حقاً؟ كل هذه الوحوش التي تلتهم بعضها بعضاً ما كان لها أن تكون موجودة، لولا ذلك الكابوس الذي أطبق مراد عينيه عليه ليؤجل فتحهما إلى وقت لا يراه قريباً. ولأن الحرب لا تشبه أي كابوس آخر، قرر الفنان أن لا يصفها كما لو أنها وقعت. يمكنه أن يتخيلها في عالم لا أرضي. عالم يقع بين مسافتين لا تلتقيان لكي يظل السفر بينهما ممكناً.

 

يخترع مراد أشكالاً متعددة للكابوس السوري. لا تهمه السياسة في شيء. وهو ما لا يفهمه الكثيرون ممَن قرروا أن يعفوا أنفسهم من مسؤولية صناعة ذلك الكابوس. ولأن الرسم لا يصف بقدر ما يفعل، اختار أن لا يكون منحازاً إلا إلى الموت. في ما يرى الرسام، الحكاية يمكن اختصارها بنزهة مشتركة بين عدوين. لا نرى القاتل مثلما لا نرى القتيل. الحرب تسمح بأكثر من ذلك. الرسم أيضاً يفعل ما لم يتوقعه منه أحد. فهو ليس الشاهد الذي يخلص إلى ما رآى. وهو أيضاً ليس الحكم الذين يدين ويبرئ. الرسم عند مراد لا يزال قادراً على أن يختبر جماله على سطوح اللوحات، على رغم العنف والأسى والشعور الداكن بالمرارة.

 

حين التقيته في باريس شعرت بأن العالم لا يزال جميلاً. فالرجل الذي اختاره الحزن هدفاً له ظلّ حريصاً على أن يسعدنا بلوحاته.

 

ناقد من العراق

الأعمال المرفقة للفنان عبدالله مراد

 

 

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine