فلسفة اللون عند الفنان العراقي علي رشيد

صالح الرزوق

 

انتقل الفنان التشكيلي المعروف علي رشيد، في الفترة الأخيرة، من مرحلة الزهد بالألوان إلى المكابدة معها. ولا أقصد أنه بدأ في حقبة من الانفجار اللوني. فهو لا يزال مقتصداً في هذه الناحية من الأداة الفنية والعناصر، فألوانه تراوح في مكانها، بين الأسود والرصاصي، ولون الرماد بمختلف هيئاته، وزهده، سواء كتلةً أو حبيباتٍ أو نقاطاً، لا يزال كما هو أيضاً. ولا يسعك أن تحدد إلى ماذا يشير هذا البحر من الرماد، هل هو غيوم في سماء مدينة تحترق. أم أنه نذير بعاصفة، أو ربما مجرد أجنحة تعبر في السماء، وتجهز نفسها للهطول.

لا يمكنك تأويل أشكال علي رشيد واستخداماته للعناصر، أو اللون ومساحاته داخل اللوحة، إلا من خلال الديالكتيك النفسي، لأنه دائماً في حالة ضبط أعصاب، وتوتر وإجهاد، ويترك مهمة تأويل هذه الاضطرابات لعين المشاهد التي يرى فيها فاعلاً حقيقياً للتأويل الموازي، أو المضاد.

ولكن من المفيد أن نتذكر هنا أن ناتالي ساروت عالجت العزلة والكآبة في مجموعتها المتميزة والرقيقة (انفعالات). وبعدها اهتم أيضاً بهذه المشاعر الغامضة كاتب سوداني هو أمير تاج السر وسمّاها (توترات) وربطها بتاريخ انقسام المجتمع السوداني، وبمشكلة العجز في حل أسباب التدهور والانحطاط، أو بكلمة مباشرة دواعي التخلف.

لا أستطيع أن أبرئ علي رشيد من هذه الاستطرادات، فهو مرشح للانشطار، ولرفض ذاته والاختلاف معها، وأيضاً لكراهية التاريخ، ناهيك عن عدم تفاهمه مع الكساد الاقتصادي والإيديولوجي الذي حاصرت أوروبا نفسها به.

وباعتبار أنه فنان متنقل، مثل أي سندباد ، فهو يحمل سفينته على ظهره، والسفينة هنا هي طوف نوح، وهذا يدل ضمناً على مشاعر الخوف والرهبة التي لا يخلو منهما الإنسان، والتي عبر عنها الوجوديون في عناوين بارزة وأساسية وفي مقدمتها: اليأس واللاإنتماء والعزلة، وغير ذلك..

فالذات المعاصرة هي من حصاد أو نتائج الحروب. والإنسان المعاصر يعيش في ظل الخوف من تكرار هذه المأساة والسقوط في حفرة الدمار وتفكيك المجتمعات.

لقد أراد علي رشيد أن يختزل هذه المعاناة في لوحاته الجديدة، واختار لمساحة اللوحة ألواناً متقاربة، وحواره دائماً معها، وهو حوار بيني، بمعنى أن فلسفة الألوان هي التي تعمل. فأعلام الدول بمعظمها مساحات لونية، ونادراً ما تحمل صورة أو رمزاً لحيوان أو نبات. وأعتقد أن علي رشيد لم يهمل مسألة الرموز والصور تماماً لكنه أحاطها بالكتمان. مثلما أن ألوانه متدرجة بالعمق والحجم، وتتناثر على خلفية متدرجة أيضاً بسماكة الطلاء، أضاف بعض الأطياف، وهي بمعظمها خيالات لفكرة تتشكل، أو جنين كائن أولي يمرّ بمرحلة من مراحل تطوره.

ومهما حاولنا أن نحدد هويته ستخذلنا. فلا مكان لعالم الحقائق النهائية في لوحات علي رشيد، وكل شيء يتحرك بقوة الإمكان، وبرأيي إنه يعبّر عن نمط وليس عن أفراد. وهذا النمط جزء من المغامرة المستمرة لما يسميه زيغمونت باومان (الحداثة السائلة).

والأهم من ذلك أن خلفية كل لوحة من لوحاته تشبه ستارة من لون واحد هو البياض غالباً، ولا يمكنك أن ترى ماذا يدور خلفها وإنما ما يحصل أمامها، ولن يغيب عن ذهنك أن ما نشاهده قبل الستارة نوعان من الصور.. كتل ملونة مقتصدة ، كما لو أنها إيهام لكتل تتسع في خيال المندغمين في مساحة العمل، وليس خارجه لأننا منقادون لحوار تفتحه قماشة الرسام على سعته ونتناص معه في حوار الحياة ومتاعبها و في أولها الاستعداد والجاهزية. بمعنى أنها حياة مواجهة دائمة أو كد متواصل.



وهنا يجدر بنا الإشارة إلى أن أعمدته رفيعة بعرض شعاع أو ساق نبات خفيف. وهي ليست جامدة أو محرومة من المشاعر، وتختزن، أو تعكس، الرغبة في البقاء والتعبير عن النفس. ومع أنها متشابكة فهي لا تشبه شبكة عنكبوت، ولكنها تذكرنا بالشرايين في يد الإنسان أو بشبكة الأوعية الناقلة في ورقة النبات.

وبالإضافة إليها توجد صور أشخاص في وضعية الوقوف. وهم غالباً منغمسون بالمشاكل اليومية، أو ما أحب أن أسميه طاحونة الحياة. ولا بد من التنويه أن صوره كولاجات، وتبدو لعين المشاهد كأنها تعويم لتشكيل وسط لجَّة من المشاعر والأحاسيس. مع ذلك فكولاجاته ليست نفسها دائماً.

ففي مرحلته الزرقاء (وتعود لعام 2011 وما قبل) يتماهى في لوحاته الأعلى مع الأدنى (السماء والمحيطات). كذلك تجمع صور أشياء بسيطة مثل صفحة من دفتر، ورقة من جريدة، طابع، ظرف رسالة...

لكنها الآن رأس ولد، صورة وجه بالمرآة، إنسان بكامل قامته. وبعضها واضح ومنفصل عن الاضطرابات النفسية التي تتشكل وراءه، وبعضها متحلل أو مفكك ولا نميز منه غير خطوطه الخارجية وبعض المنحنيات. وأحياناً يوجد تناص (بالمعنى الحرفي للمصطلح) مع لوحات سابقة أصبحت جزءاً من الضمير الفني (كلوحته التي تتداخل فيها شتى الصور والألوان والخلفيات مع نسخة من الموناليزا).

وأهم من كل ذلك أن أطيافه أو صوره تحتل زاوية من مربع اللوحة، وتعبر عن اختلال في توزيع الألوان والأشكال. وهذا مفهوم في ضوء اختلال الميزان في الغرب. فالعدالة انتقائية، وحالة الصفاء والوئام تحل على الجو في لحظات، ثم تنسحب لتترك الساحة لدخان الحروب ورموزها (مثل مباريات المصارعة حتى الموت)، أو للسباق الطاحن بين شركات الاستثمار.

وهذا يعني أن قوام عالم علي رشيد الحالي تام الاستدارة، ويتكون من الوعي الباطن وما تحت الشعور. وأعتقد أن تغليب الكتل والبقع الداكنة التي تطفو وسط خلفية ذات لون ناصع تكشف عن رغبته في كشف المستور، من خلال الدفع بنا للتفاعل ذهنياً مع أعماله التي تحاجّ الواقع بنقيضه، وتحاجّ الوجود من خلال الهرب من متاعب الحياة ومن المضمون المفروض عليه بقوة الإيحاء. يعني ميوله الواضحة للفرار من الذات والموضوع في وقت واحد، واللجوء لعالم الذكريات، والأثر ومحوه ، بل والرغبات المكبوتة.

ولربما هو لا يريد أن يرى جزئيات عالمه، أو أقله لا يريد أن يعترف بجانب من حياته، فيسدل عليه شيئاً من التهيّب والانفصال، أو لنقل الإلغاز. وهذا دفعه لاستراتيجية لا تخلو من الانزياحات. فهو يعود للمفردات نفسها، لينفخ فيها أفكاراً مغايرة بعد إدخال تعديلات عليها. وهذا يعني ضمناً أنه يمارس قسوة الناقد على نتاجه الفني وعلى نفسه أيضاً. ولا يخلو هذا مما يسود عالمنا من غضب.

 

عن ضفة ثالثة

 

كاتب ومترجم من سوريا

الأعمال المرفقة للفنان علي رشيد

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine