معايير ومقوّمات التشكيل في زمن الملتيميديا

د.عواطف منصور

 

 لا ريب في أنّ المنجز الفني المعاصر موضوع خصب يمكن الإقتراب منه عبر مداخل مختلفة قد تذهب إلى رؤى بحثيّة كثيرة، غير ّأنّ التنقيب في الفنون الراهنة من حيث هي انقلاب وتغيّر وتداعي للمعايير والرؤى ليس كأيّ بحث غيره لأنّه بحث في الأفكار والهواجس التي سكنت الفنان المعاصر وبحث في صميم الفكر الخالص بعيدا عن الخامات.

 وقبل سنوات كان صعباً علينا أن نفكّر بفن لا ينتمي إلى تيّار بعينه أو إلى مكان وثقافة بعينها، فقد كان هناك تفكير مختلف بالفن من خلاله وصولاً إلى وظائفه والهدف منه، غير أنّ شيئا ما تغير خلال العقود الأخيرة يسرَ عملية تفكيك علاقات عديدة بعضها كان مادياً فيما كان البعض الآخر روحياً.

 ويعزى ذلك إلى اتّساع رقعة استعمال التقنيات الرقمية وغزارة الثروة المعلوماتية وتوزّع اهتمام الذهن الفنّي بين ما هو مرئي وبين ما هو افتراضي لتقوم علاقة مستحدثة بين اللغة والصورة وهي علاقة قديمة، غير أنّها لم تخرج إلى العلن إلا بعد أن اتخذ الهذيان الفضائي طابعاً شعبياً من خلال العولمة. وبسبب كلّ هذه التغيّرات وجدنا أنفسنا في مواجهة ثقافة بصريّة جديدة تقوم أساساً على ذاكرة بصرية قادرة على الحذف والإضافة بسرعة البرق.

والواقع أنّ الفنّ المعاصر في أصله قد نشأ مدفوعا برغبة الفنان في التعبير عن واقعه بكلّ ما فيه من أفكار وتصوّرات وخيالات وهموم وقضايا وغيرها...، فقد خاض على مرّ الزمن جولات تجدّده لتكسر قوالب الشكل والمضمون معا ومن هنا يمكن القول بانتهاء العصر الذهبي للفنون.

 هذا ما سنحاول أن نبرهن عليه في طرحنا هذا من خلال أمثلة لأعمال فنيّة معاصرة وبطبيعة الحال سيواجه برهاننا هنا عدّة تساؤلات من قبيل ما هي معايير ومقاييس الفن التشكيلي المعاصر؟  وبعبارة أخرى: ماهي الفجوة التي يمكن أن تعبّر عنها الفنون المعاصرة، هل يشكل الغياب حضورا، هل يشكل التخفي حضورا، أو الفصل جمعا؟ ومع ذلك فان التساؤل عن انزياح الفن عن سياقاته وتداعيه يبقى سؤالا أساسيا ينبغي الكشف عنه مسبقا.

 سنجيب عن هذه الأسئلة بشكل ضمني من خلال سياق طرحنا الذي يحاول البرهنة على الهوّة التي أحدثتها  هذه الفنون عبر أمثلة من المنجزات الفنية المختلفة في أساليبها التعبيريّة.

قد نلتمس إجابات صريحة عن هذه التساؤلات من خلال ما نقدّمه من أمثلة وصفها البعض "بأنها نهاية للعصر الذهبي للفنون في حين يواصل آخرون مغامرتهم الجماليّة وأمام أعينهم تمزقات العصر"، فنحن بذلك نقف إزاء وعي جديد بالفن يستلهم خلاصاته من حيويّة فكرة جديدة للعيش، ذلك لأنّ فن اليوم لم يعد معنياً بالجمال إلا باعتباره هدفا وهذا ما يذهب إليه الفن الجديد ولكن كيف يمكن التفكير بذلك الهدف؟

يمكننا هنا الحديث بيسر عن قطيعة نسبية مع الأساليب الفنية التقليدية من رسم ونحت وخزف وحفر... فقد حلتّ مكانها أساليب وتيّارات جديدة مثل الفن الجاهز، الفن المفاهيمي، فن الأرض، فن الفيديو، فن الأداء الجسدي.... وكلّها تسميات استنبطت من التقنية المستعملة من أجل التعبير عن فكرة أو العمل من خلال تلك الفكرة على الوصول للهدف والعكس.

ولنا أن نذكر هنا ما أدرجته الفيلسوفة  "آن كوكلان (Anne cauquelin) في كتابها "ميثاق الفن المعاصر" لبعض مظاهر هذا الفن، إذ حدّدت معالمه في غياب الموضوع الفني واستبدال الكلمة والدال والنوايا المؤطرة للمشروع الفني بما هو مادي ومُشخّص. وهكذا يصبح للفراغ قيمة فنية بل يشكّل في الوقت نفسه الموضوع التشكيلي، وقد يجعلنا ذلك نعتقد أنّ الفن ولاسيما الراهن يعاني من حالة نفي فهناك قدر هائل من الوضاعة في استعمال الفن باعتباره مظهراً للتنافس الاستعراضي.

 وفي هذه الحالة لا يكون العمل الفني وسيطاً بل مختبراً تمتزج فيه قوتان: الفن وتلقّيه وهما قوتا استلهام لا تكّفان عن الحركة، ومن هذا المنطلق ولدت فنون بلا هويّة أدّت بالتالي إلى حلول فراغ كبير بعد أن تفتّت العقائد الفكريّة الكبرى وانحسار تأثير النزعة الثوريّة المتمرّدة وصار علينا أن نرضى بفن لا نعرفه، ذلك لأن الفنون المعاصرة وهي تقدّم الفكرة على الجمال صارت تُعنى بالمعنى أكثر من عنايتها بالشكل فقد صارت الأشياء المهملة والمنسية والمبتذلة تجتاز فضاءً تخيلياً بقوة المعنى لا لتعبِّر عن حاجتنا إليها بل لتذكر بوجودنا.

لا شك في أنّ هذا الكلام يحتاج منّا إلى أمثلة يمكننا من خلالها أن ندرك دلالة ومغزى هذا الفن، فهذه المنجزات الفنية التي نلاحظها اليوم في كل عرض فني تغزوها دعوة لنقض فكرة الكمال والتماهي مع رغبة عميقة في هدم الصورة التي تعوّدنا عليها في الفنون التقليدية كالرسم والنحت، كما يغزوها جمال زائل وهذه الدعوة تحمل الكثير من الوقائع ليس من اليسير إحصاؤها فقد صارت اليوم جزءاً من التاريخ مهّدت وصنعت حيوية ثقافية أحلّت مفهوماً جديداً للفن محلّ مفهوم كنا إلى وقت قريب نظنه خالداً لا يزول، وعلى رأي الناقد الفني يوسف فاروق: "لم يعد العالم في انتظار ولادة فيلاسكيز أو بوتيتشيلي أو بوسان أو تيرنر أو حتى بيكاسو وماتيس وتابييس وسي تومبلي، شيءٌ ما وقع، هو المسؤول عن تغير المرجعيات".

  ولن تخذلنا ذاكرتنا هنا للكشف عن بعض الأمثلة التي ستكون كفيلة بما أوردناه اللحظة ولكن وقبل ذلك سأذكر اعتقادا ساد ذهن الفنان "بابلو بيكاسو" حين اعتقد أنّ الفوضى في الفن انتهت بموت "مارسيل دي شان" فقد اعتبره الخطأ الذي تسلّل إلى تاريخ الفن الحقيقي نتيجة ما أحدثه من فوضى في الفن، فقد كانت أفكاره بمثابة إعلان عن ما سمي فيما بعد بالفن المفاهيمي وولادة حركات فنية أخرى تعدّدت أدواتها التقنيّة واهتماماتها الفكريّة والبصريّة.

  فنون لا تبحث ولا تستجدي ذائقة الجمهور، فقد استُبعدت هذه الأخيرة تماماً من العملية الفنية التي أصبحت تتطلب اليوم مراناً فكرياً ليس من أهدافه الارتقاء بذائقة المشاهد الجمالية التي لم تعد ضرورية ليكون العمل الفني موجودا، ولربما سيكون علينا الاعتراف بأن تغييب المشاهد هو جزء من مسعى أكبر يمكن تلخيصه بموت العمل الفني باعتباره سلعة قابلة للتداول والحقيقته أنّه لم يعد الفنّ معنياً بالإنسان، وإن بدا أن هناك اهتمام بصري بيوميات ذلك الإنسان الضائع من خلال أشيائه المتاحة، وهذا ما صنع فراغاً بين الفن بأسئلته الوجوديّة وبين ما صار يقدّمه الفنانون من أفكار لا تقوى على التعبير عن نفسها فنياً.

لقد أصبح الفن المعاصر يلعب على المستوى الخفي والمشفر لعلاقاته بالمعيش اليومي، وبالتاريخ العام، بل ساهمت علاقاته المتشعبة بالتقنيات الحديثة من ذلك الرقمنة، الطباعة الإلكترونية وبالعلوم التقنية، في تلاشي الحدود بين كل الأجناس الإبداعية، مما قد يُعقد من خصوصية العمل الفني الخالص. وكثيرة هي كذلك الأعمال الفنية المعاصرة الهجينة، فهل نعتبرها أعمالا فنية؟ أم أبحاثا نفيسة لتجارب ذاتية؛ أم تجارب علمية وتقنية . إنّ فراغ موضوع الفن وتجرّده من المادّة لصالح المفهوم شكّل في تقدير هذا الفن مقاربة منطوية على مفارقة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المواد التي أصبح يوظفها الفن المعاصر وهي عبارة عن أدوات مستعملة كفضلات المجتمع الاستهلاكية وبعض الإفرازات الجسدية والطبيعية.... فما يميّز قوّة هذا الفن هو ذوبان العمل الفني التقليدي كإطار وحامل لتبقى لعبة الذاكرة والأثر وفي أحسن الأحوال بعض الصور أو أشرطة الفيديو شاهدا على ذلك الأثر .

مثال آخر ندرجه في هذا السياق، وهو نموذج الفنان البرازيلي Edwardo kac، صاحب تقنية المزج بين الشعر والألوغرافيا (Halographie) وصاحب فكرة الفن العابر للنظام الجيني، فقد اخترع الفنان أرنبا يتغيّر لونه في اتّصال مع الأشعّة ما فوق البنفسجية وقام بإنجاز حامض نووي ADN انطلاقا من تحويل للأرنب حسب الأضواء المسلّطة عليه، لقد وظف هذا الفن في فرز جراثيم كثيرية وعلى الرغم من تجاذب الأحكام القيميّة حول التجربة إلاّ أنّها تطرح بحدّة مسألة التحكّم في الخريطة الجينيّة للمخلوقات.

تجربة أخرى لا يمكننا إستثنائها هنا تميّزت أيضا بالوعي والجرأة وهي تجربة الفنانة المكسيكية  Teresa Margolleوالتي ناهضت من خلال تجاربها الفنيّة انعدام الأمن والعنف الحضري كطبيبة للتشريح، وقد استعانت بجثث ضحايا العنف الاجتماعي والحروب لعرضها قصد التحسيس بالعواقب الاجتماعية، الثقافية والسياسية لهذا العنف، وقد أنجزت حائطا إسمنتيا مسطّحا في شكل مقبرة ثابتة تأوي جثامين الضحايا كما عرضت بالبندقية "كفن"، وهو عبارة عن نصب يحمل آثار أجساد بشريّة مشرّحة لمن لا سكن لهم ولمجهولي الهوية وهكذا حمل فنّها قضايا  جريئة بعينها.

وتسعفنا الذاكرة أيضا بأعمال الفنان  Maurizio Cutellan ، التي تبيّن أنّ الفنان قد استطاع أن يطرح جدليّة الصورة والمُصَوَّر، فسلطة الصورة قد تكون فعّالة وأكثر صدمة من الكلمة، أي حينما يتعلّق الأمر بتشخيص ما لا يمكن قوله أو وصفه. إنّ ما نريد قوله هنا ببساطة هو أن الفنون المعاصرة بمقدورها أن تكشف وتخلق الدّهشة أو المراهنة على إثارة شعور الزائر واستفزازه أو حتّى صَدْمِهْ، يعني أن الفنان استطاع أن يخلق لنفسه سجلاّ خاصا متعدد الأوضاع والمواقف يساهم من خلاله في التشويش على الأدلة وآليات الفن المألوف، بل ويلامس الواقع عبر انزلاقات من دون أن يتجاوزه سوى بطريقة غريبة وطيفية، إنّه فن وبالمفارقة مناهض للقولبة الإعلاميّة والثقافية والاستهلاكية لمجتمع الفرجة والمتاجرة.

كل ذلك لا يمنع من كون هذا الفن هو في الحقيقة فن مُحَطم للأيقونات، فالفن المرتبط بعصره مُرَشح لأن يموت ويزول مع زمنه بل ويصبح غير مفهوم، وقد تقابل هذه الرؤية الثقافية للفن رؤية مضادّة تمجّد في الفن طابعه ألالتزامي والإجتماعي لأنّه في اعتقادها يتّجه لكل الناس ولكن في الوقت نفسه يخاطب كلّ واحد منا حسب عادته وديدنه، إن شَخْصَنَةْ العلاقة مع العمل الفني والمخالفة لثقافة الاستهلاك الحاشد هي الشرط الأساسي لأي تأويل متجدّد ومتغي؟ر...هكذا يكون شأن الفن، فمثل هذه التجارب التي ذكرناها تكشف لنا عن الوجه الغامض لاستقلالية الفن التشكيلي ليتعلق الأمر باحتواء الفن من طرف التحديات التقنية أمام مقاومة أنصار الفن السامي المألوف واعتبار هذا الفن خيالا واقعيا.

وانطلاقاً من هذه الاعتبارات المشار إليها تكمن خطورة الخطاب الفني المعاصر كحقل غني بإيحاءاته وأساليبه وانزياحاته عن المألوف في استحواذه على مسارات قد تجاوزت بدورها من فرط عنف الواقع الفعلي لتنخرط  ضمن مسارات استعراضية جذرية، وقد تساءل الفيلسوف Michel onfray في كتابه"  Arche'ologie du present، Manifeste pour une esthetique cynique (2003- Graet)] " عن إمكانية إدراج هذا الفن ضمن خانة الفكر الفلسفي المعاصر مع التأكيد على أنه جزء لا يتجزأ من مجموع الصناعات الثقافية اللاإرجاعيّة لأنّ استبدال الثقافة أو ثقافة التواصل بالفن يشكل في حد ذاته موتا حقيقيا بصيغة الزمن ما بعد الحداثي لهذا الفن.

وفي الختام يجوز القول أنّ الفنون المعاصرة قد انزاحت عن المعايير الجمالية المألوفية غير باحثة عن الذائقة الجمالية التي باتت اليوم مفقودة، بل إنها في أحيان كثيرة أصبحت منفصلة عن الفنان ذاته وعن الفن وحتى عن الواقع. ومن هنا قد نفهم مقولة هيقل بأنّ "الفن هو شيء من الماضي"، فهذه المقولة لا تعني إن الفن قد مات أو إنه لم يعد له دور أو مكان في عالمنا، بل تعني أن الفن لم يعد يقوم بدوره التاريخي الذي كان يتمثل في روح وحقيقة شعب ما كما تتجلى في دينه وثقافته وحياته الدنيوية ورؤيته للعالم.  وهنا يتسلل إلى خاطرنا سؤال قوامه: أيّ مصداقيّة لهذه الفنون ذات المحدوديّة الجماليّة؟ وهل لا يزال الفن ذلك الأسلوب الجوهري الذي تتجلى فيه الحقيقة المرتبطة بوجودنا التاريخي أم أنه فقد الإتسام بهذا الطابع؟

 

 

المراجع والإحالات:

 آن كوكلان، تشكيليّة، فيلسوفة وروائيّة فرنسيّة، باحثة في الفنون المعاصرة والجماليات، أستاذة بجامعة باريس وجامعة بيكاردي.

2 ادواردو كاك هو فنان معاصر أمريكي ولد في عام 1962 في ريو دي جانيرو.

3 تصوير ثلاثي الأبعاد هو طريقة التسجيل للمرحلة واتساع موجة بواسطة كائن، هذه طريقة التسجيل يجعل من الممكن لجعل وقت لاحق صورة ثلاثية الأبعاد للجسم. ويتحقق ذلك باستخدام خصائص نتائج ضوء الليزر متماسكة. كلمة "تصوير ثلاثي الأبعاد" تأتي من اليونانية "holos" ("الكامل") و"graphein" ("إرسال"). لذا تصوير ثلاثي الأبعاد يعني "كل تمثيل".

 

4 Genesis (1999) comporte la création d'un « gène d'artiste ». L'ADN Genesis conçu par Eduardo Kac : un gène synthétique produit en traduisant en code morse une phrase tirée du livre de la Genèse, puis en convertissant ce code en paires de bases d'ADN conformément à un principe de conversion élaboré expressément pour le projet.

 

6  Maurizio Cattelan est un artiste italien né à Padoue le 21 septembre 1960. Il vit et travaille à New York.Ses œuvres connaissent le succès à la fin des années 2000 sur le marché de l'art contemporain et chez les collectionneurs.

 

 

أستاذة جامعيّة بالمعهد العالي للفنون والحرف، جامعة القيروان / تونس

العمل المرفق للفنان Edwardo kac

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine