فــــــؤاد بلاميـــــن ... الريـــــــــادة والوعـــــد المتجـــــــــدد

فــــؤاد شـــــردودي

 

بغير قليل من الدهشة و الانبهار يضعنا فؤاد بلامين أمام تجربة إبداعية متفردة لها خصوصيتها و مكانتها المتميزة في مسار الحركة التشكيلية المغربية و العربية ، تجربة راكمت منجزا مهما على امتداد أكثر من أربعة عقود ، قد لا تستطيع هذه الورقة تلمس كل معالمه و أسراره ، لكنها ستستقرأ بحس متأمل عاشق يستنطق الصمت و يستشعر ضوء التفاصيل ، في مسار هذا المبدع الذي زاوج بشكل فريد بين التطبيق و التنظير بمخزون بصري وعمق معرفي كبيرين.

 

في أحيان كثيرة تكون التقسيمات النقدية الخاضعة لأساس الرؤية الزمنية ، غامضة او عائمة في العمومية ،مما قد لا يعطي تصورا واضحا حول ما تزخر به بعض التجارب من أبعاد استثنائية تتجاوز التصنيف الجيلي / الزمني البحت ، وربما أحيانا تخلخل بنية الاتجاه الفني او الطابع العام المميز لجيل بعينه أو مدرسة بعينها . من هذه الاستثناءات أو ربما أبرزها في المشهد التشكيلي المغربي نجد فؤاد بلامين الذي ينتمي – حسب العديد من الدراسات – إلى جيل الريادة الثاني في المغرب ،الجيل الذي تمثلت معظم أعماله في الاتجاه نحو التجريد المحض و التأثر البالغ بالمدرسة التجريدية الباريسية ، يظهر ذلك جليا في القواسم المشتركة بين مجمل فناني الجيل و التي يطغى عليها التجريد الشاعري أو التجريد الهندسي . لكن فرادة تجربة فؤاد بلامين تكمن في أنها عصية على الخضوع للتصنيف الزمني الخالص ، فهي تحوي من السيرورة ما يجعلها تستشعر تحولات الحياة الفنية في بعدها الكوني ، ولا تقدم نفسها بطابع الاطمئنان إلى شكل إبداعي معين .

إن اشتغال فؤاد بلامين البصري شكل تواصلا حميميا مع الفضاء ، كحقل دلالي و كمرجع إشاري لا ينضب ،بحيث تنوعت تمثلاته و مناخات البحث فيه و من خلاله ،هكذا استمد المكان بعده التاملي الوجودي و التف على مفهوم التيمة ليؤكد نفسه في أعمال بلامين كوحدة كثافة مجازية لها ذاكرة الروح و روح الذاكرة . فحضور مدينة فاس بزخمها التاريخي و حمولاتها الرمزية ونور جدرانها شكلت في مرحلة مبكرة كتابا مفتوحا قدم من خلاله الفنان رؤيته و تصوره للأثر و تفكيكه كموضوع غير ثابت ، قابل دائما لإعادة الالتقاط ، إنها المناطق الصامتة الأكثر بلاغة في الفضاء و التي يختبرها فؤاد بلامين بغير قليل من الجرأة الفنية و الخبرات الجمالية.

 

هكذا يتخفف المكان من تكوينه التصويري ليصير فضاء مسرحيا تتفاعل من خلاله السياقات اللونية ،و يتحاور النور و العتمة و الوجود و العدم ، في حركية ارتحالية بين المكان / الواقع و المكان/ المتخيل و المسافات المنتصبة بينهما و التي تقع من خلالها إلغائية الزمن و التخفف من مشهدياته انتصارا للمعالجة الابداعية الخصبة . هذه الرؤية تتخذ من الحداثة مخبرها الدائم ،الحداثة بمفهومها العام في الخروج عن النمط السائد و تحرير الاشتغال اللوني و البحث في كيميائية المادة و التكوين الهرموني للعمل الفني .

في اشتغال فؤاد بلامين ' موائد الالهة ' دائما نجد ذلك البعد التزخيمي للمعطى العلاماتي و الإشاري ،كما نجد استنفارا نورانيا عارما يخلقه التناغم اللوني فوق السطوح المادية كما في القدرة التخييلية الهائلة التي تحتفي بالاختزال و الكتابة التشكيلية المشهدية . الموائد تلخص لدى بلامين اختياره التعبير الطلق المتحرك المنفتح على الامكانات المتعددة المقيمة في الحدود بين التشخيص و اللاتشخيص ،بين النور الخارجي و النور الداخلي ، و تجدر الإشارة في هذا المقام غلى كون فؤاد بلامين طبع مسيرته الفنية و مازال ببراعة و إدراك كبيرين لأسرار الرسم الإقلالي المينيمالي و بذلك فهو ينحى نحو الاقتضاب و البساطة المرادفين لاتساع الرؤية و نفاذها .

موائد تنبعث من أفقها الهندسي بكثير من التجريب و الإثارة و الإيحاء لتأخذ طابعها الإشكالي الجديد بإضافة فؤاد بلامين لشكل نصف كروي فوق المكعبات /الموائد لتصبح تكوينا فنيا له حضور و مغزى و دلالات رمزية كبيرة ،هوعبارة عن ضريح او هو على الأقل إبداعيا هجرة النور من الشكل إلى الجوهر . حيث إعطاء الشكل قيمة و دلالة رمزية وبعد روحي خالص باستغلال تدرجات اللون و بنائيته في ترابط تام مع المساحات المتجاورة و المتقابلة والتي تخرجها المادة من سياقها المنظور إلى قيمة فضائية تشتغل الكتلة على إبرازها ضمن تصور يستوعب رؤية المبدع الخاصة للخامات و الأسناد. إن فؤاد بلامين يضعنا أمام عوالم يصير فيها اللامرئي مرئيا ،حسب تعبير بول كلي ،فهو دائم الاشتغال على الحركة و الدينامية التعبيرية التي تستدعي استئنافا عميقا للفعل الصباغي ،فأعماله ليست تصويرية حكائية كما أنها لا تقبل أن تقرأ معزولة عن سياقات إنتاجيتها إنها توازنات جمالية منضبطة لإيقاع معين بالرغم من حركيتها الصارخة وغوايات سطوحها ، التي يصبح فيها الفضاء أثرا و مرجعا منفتحا على التأويل الحر و كأنه تجسيد لمقولة أرسطو' إن الهدف من الفن هو استخراج الأشياء من مخابئها وليس تصويرتلك المخابئ الظاهرة أمامنا '.

لقد اهتم فؤاد بلامين بالممارسة التشكيلية المعمارية اهتماما بالغا تمثل ذلك في مجموعة من أعماله التي استطاعت - بافتتان كبير - خلق تماسات جديدة مع الهندسة المعمارية كمعطى بصري جمالي ، يستدعي خصوبته من تحوله من طبيعته الحكائية إلى مجموعة سطوح فنية تغوص في ذاكرة المتلقي و تساءل نظرته للأبعاد و المساحات ،وكأنها تداعيات مقصودة لما يركن وراء الشكل الهندسي و إنشاءات متمردة تحتفي بجدلية الهدم- البناء، و الفراغ – الامتلاء .

إن معالجات فؤاد بلامين التشكيلية تنتصر لقيم النور و الجمال ، تتجاوز الطابع البصري العام العابر إلى طابع التخصيص الباذخ الممتلئ بالسكون و المنفتح على مدارات التجلي العميق، إنها الإقامة في اللامادي بصورة أقل ما يقال عنها انها بحث عن الجوهري المتجدد نكاية بالمؤقت المتلاشي . إن اتسام أعمال بلامين بالصمت البليغ المكثف يمثل شغف الفنان و انصهاره في نشوة شاطحة رافقت اعماله الأخيرة المتأملة للظاهر والباطن و الجواني و البراني، بتجريد بالغ الرهافة يحمل على الانتقال من حالة الإغواء المادي المكشوف إلى حالة الحلول في الكوامن و الأسرار، هو انتشاء بالتأني و الرسوخ و الإشراق و معانقة المطلق في تشكيلية صوفية شفافة بصرية و بصيرية ، قد تظهر أحيانا على شكل مونوكرومات لا مكائد فيها ولا تشويش ، فضاءات جمالية مغايرة بسيطة منشغلة بالأعمق الوجودي المختزل وكأنها قصائد هايكو بصرية .

إن تجربة فؤاد بلامين ظلت دائما منفتحة على إمكانات التجريب لذلك لا نستغرب كونها احتفت في بداية الثمانينيات بما يسمى فن ' الأنستليشن' أو 'التركيب في الفضاء 'كما ظلت دائما تبحث عن تطوير العلاقة بين الفوتوغرافي و التجريدي التعبيري في تجليات إبداعية تستشرف الافاق المستقبلية الواعدة ، و مازالت هذه التجربة تملك ما يكفي من الإدهاش و الاختلاف ..

 

 

فنان تشكيلي و كاتب من المغرب

الأعمال المرفقة للفنان فؤاد بلامين

 

started 1 MAY 2010                 email : info@ila-magazine.com

design: gitta pardoel logo: modhir ahmed   © ila-magazine